الاثنين، 14 يناير 2013

البيضـــــــــــــاء (1)...مفتاح بوعجاج

أحد شوارع البيضاء 1966

 
هكذا يقولون وبكل بساطة :البيضا،،ولدت فى احد أطرافها الجميلة فكانت الأم التي احتضنتنا صغارا وكبارا بل احتضنت الكثير من أطرافها غربا وشرقا وشمالا وجنوبا وهى اليوم رغم حملها الثقيل وسعت كل أطياف الجبل الأخضر وما جاوره وذابت اوتكاد تذوب فيها ليصبح الجميع بيضاوي على قياس مصراتى او طرابلسى او درناوى وهو تدرج مدني متحضر للمدنية لنكون جميعا في النهاية ليبيين ،،،وهى لذلك عاصمة الجبل الأخضر بدون منازع بل كانت يوما ما عاصمة ليبيا الصيفية ..لا أدرى تماما سبب هذه التسمية ،البعض يقولون ان هناك مقبرة قديمة سبقت إنشاء المدينة كانت تسمى( مقبرة بني زرقاء) ومن عادة السادة السنوسية الذين انشئوا (الزاوية البيضاء) أن يستبدلوا الأسماء ذات الصفة المستهجنة بأخرى ودودة و مفرحة (عيت بو مقطوعة إلى بوميصوله مثلا-) وهى من غير شك سنة دينية ترسخ مبدأ التفاؤل بدلا من التشاؤم والتطير ،، ولهذا استبدلوا اسم الزرقاء الى البيضاء وهناك من يقول أن تسميتها جاءت من كونها تصبح بيضاء فى وقت الشتاء حيث ينزل الثلج بغزارة ويبقى لأيام ..ولا أريد أن يكون مقالي هذا أكاديميا يبحث التاريخ والجغرافيا لأنه ليس تخصصي وهناك من هو أفضل منى عقلا وتخصصا لإبراز والتحدث عن هذا المجال،، إلا أن ما أريد التحدث عنه هي البيضاء المدينة والمكان والإقليم والتراب والهواء والشجر والبشر والحجر، التي دخلت قلوبنا ونفوسنا وعشنا فيها صغارا أبرياء واشتقنا إليها عندما رحلنا عنها لسنوات واحتضنتنا نحن وأولادنا من جديد فى ربيع سنواتنا وهى مكان جمع ذكرياتنا مع الأحبة والرفاق وهى المكان الذي ذابت فيه كل الأصول والفروع فى حلاوة الرفقة، وهى المكان الذي اشتد فيه عودنا على يد أولئك الأساتذة الكرام الأجلاء وعلى يد كبار المدينة الذين كانوا أباءا لنا جميعا بدون استثناء .
          فيك لاغينا الهوى فى مهده    ****     ورضعناه فكنت المرضعا
         وعلى سفحك عشنا زمنا        ****     ورعينا غنم الأهل معا
          وحدونا الشمس فى مغربها    ****     وبكرنا فسبقنا المطلعا
         هذه الربوة كانت ملعبا          ****     لشبابينا وكانت مرتعا
         كم بنينا من حصاها أربعا       ****     وانثنينا فمحونا الاربعا
          وخططنا فى نقى الرمل         ****     فلم تحفظ الريح ولا الرمل وعا
          ما لأحجارك الصم كل ما        ****     هاج بى الشوق أبت ان تسمعا
          كلما جئتك راجعت الصبا       ****      فأبت أيامه ان ترجعا
          قد يهون العمر إلا ساعة        ****     وتهون الأرض إلا موضعا
 ( مقاطع من قصيدة *جبل التوباد*لأحمد شوقي تغنى بها محمد عبد الوهاب فى لحن رائع)

البيضاء كأي مدينة ليبيه أصبحت  اليوم مدينة شابة اى ان نسبة الشباب فيها يتجاوز ال65% ولذلك فهي لم تعد تلك المدينة الوادعة الهادئة التي عرفناها فى الستينات وحتى السبعينات او الثمانينات فهي تسهر الليالي فى الأزقة والشوارع  والميادين لعدم وجود أمكنة تستوعب احتياجات او نشاطات هؤلاء الشباب ،فلا توجد ساحات عامة شبابية تقام فيها احتفالات فنية او مسرحية او غنائية مثله مثل ما هو موجود فى دول العالم الأخر بحيث يمكن تفريغ طاقات الشباب وتوجيههم الى الأفضل عن طريق هذه الأدوات الثقافية ، هؤلاء الشباب الذين يرون ويسمعون ما يجرى فى العالم حولهم عن طريق هذه السماوات المفتوحة,,كما تم قفل دور السينما (كانت في الستينات توجد ثلاث دور سنما)( بالرغم من  ان أمريكا هى الدولة رقم واحد فى إنتاج وتوزيع الأفلام السينمائية وبها عاصمة السينما هوليوود فى لوس انجلوس/كاليفورنيا وبالرغم من أنها صنعت وتبنت معظم التقنيات الحديثة من تلفزيون واتصالات وأقمار صناعية وانترنت إلا ان مباني السينما التقليدية التي تعرض الأفلام بالطريقة التقليدية لا تزال موجودة حتى اليوم وتعرض فيها الأفلام بالطرق التقليدية فى صالات عرض حديثة قبل ان تعرض فى اى مكان أخر وكذلك نفس الأمر فى دولة مصر العربية ،،ففي تلك الدول  لم تِحرق المراحل كما فعلنا بكثير من المراحل التي عشناها، فمثلا أيضا بالرغم من توفر وسائل الاتصال الحديثة من انترنت وهواتف خلوية وغيرها إلا ان الطرق البريدية فى الاتصال وإيصال البريد التقليدي من إيصال رسائل في الأعياد والمناسبات لا يزال يعمل حتى اليوم )..كما انه أيضا فى مدينتي  لا توجد مسارح شعبية دائمة ولا مكتبات شعبية عامة دائمة للقراءة بالرغم انه فى الستينات والسبعينات كان هناك دار للثقافة ومكتبات بالمدارس ومكتبات خاصة بها مجلات للكبار والصغار(تحول نشاط وأمكنة تلك المكتبات اليوم الى نشاط تجارى تبيع السلع الغذائية واللحوم والدخان بدل الكتب والمجلات)، وكذلك كان القسم الثقافي بالسفارة الامريكيه بمدينة البيضاء يفتح أبوابه للقراءة به كتب ومجلات عربية وانجليزية والذي تم غلقه وتحول ألان إلى محلات لبيع الدخان بالجملة والبعض تخصص فى بيع المكرونة بأنواعها،،! ولا توجد نوادي علمية ثقافية بها نشاطات خاصة بالشباب وانا هنا لااتحدث عن النوادي الرياضية التى تقزّم نشاطها الى أنشطة كروية ولا تستوعب كل الراغبين علاوة على عدم كفاية مواردها المالية كما أنها لا تستوعب كل الشباب ورغباتهم المختلفة فليس كل الشباب يرغبون النشاط الكروي....فهناك النشاط الفني والموسيقى والمسرحي.. (فى السبعينات والثمانينات كانت هناك فرقة تسمى فرقة (الجبل الأخضر للفنون الشعبية) اكتشفت وقدمت الكثير من الفنانين الغنائيين والموسيقيين على مستوى ليبيا وكان لها من الأعمال لو استمرت لأصبحت دارا للفن الراقي الشعبي ولأعطتنا الكثير من المواهب ولكنها توقفت وذهب معظم منتسبيها ذكورا وإناثا فى صمت الى البيوت او الى المقابر،،اذكر ان احدهم كانت له أعمال فنية رائعة عندما استمعت إليه وكنت عائدا حينذاك من دراستي بالخارج اعجبنى كثيرا و شعرت بأنني استمع الى فنان وصوت شعبي ما أجمله من لحن وصوت اعادنى الى صوت وحنين وتراث بلادنا، وأخذت له شريطا لإسماعه إلى زملاء دراستي إلا انه بعد عودتي لم أجد له أثرا وانقطع هذا الفنان عن العمل وعند سؤالى قيل لى انه تم ضمه إلى الالزامى واختفى بعدها ,,انه الفنان محمد الحمرى...كان هناك أيضا نشاط موسيقى بالمدارس ابرز الكثير من المواهب واحيا الكثير من النشاطات الموسيقية على مستوى المدينة وعلى مستوى البلاد وظهرت من خلاله عشرات المواهب الفنية الشابة والتى كان لديها الكثير من المواهب الفنية الرائعة والتى يبدو انه بعد اختفاء هذا النشاط من المدارس ذهبت هذه المواهب والأجيال التي أتت بعدها الى نشاطات أخرى كالتجارة وأكثرها الى الانكفاء فى البيوت او الشوارع او الجلوس فى المقاهي بعد عودة تلك المقاهي (حيث أيضا حتى المقاهي والمطاعم اختفت فترة من الزمن فى ظل توجهات قفل النشاطات الخدمية والترفيهية بدعوى التوجه للنشاطات الإنتاجية والتى فى النهاية ادت الى نتائج عكسية تماما  حيث توقف النشاط الإنتاجي وأصبح اقتصاد المدينة اقتصادا خدميا تجاريا).

ثم عادت تلك المقاهي محملة بالنرجيلة او الارجيلة(لا اعرف لها اسما نحويا ولا يوجد مصطلح انجليزي بالخصوص حيث انه اختراع عربي بجدارة) التي كان لا يعرفها مقهى (عبد المولى) المقهى الشهير بالبيضاء بالسوق الفوقي والذي كان يلتقي فيه كبار السن بالستينات (ولا اعلم عن الخمسينات) يلعبون فيه الألعاب الشعبية من العاب الورق والشيزة الليبية ويتناولون فيه الشاي الليبي والقهوة العربية ويتواعدون على اللقاء فيه، والذى تم قفله فى حملاتنا  المحمومة على( التجارة والنشاطات الاستغلالية) مما اضطر زبائنه الى الافتراش على الأرض على حصائر من الكرتون المقوى ان وجد او على الإسفلت مباشرة وانتشروا فى المدينة زرافة ووجدانا ولم يعد المقهى الى موضعه، وبقى كبار السن بدون مقهى وانضم إليهم حتى الصغارفى ظلال الحوائط والمباني والجوامع (داست سيارة مسرعه مجموعه من كبار السن يلعبون الشيزة فى ظل احد المباني وعلى الإسفلت وتوفى عددا منهم رحمهم الله فى قرية القيقب المجاورة لمدينة البيضاء فى السنوات الماضية ).
   كان فى المدينة معصرة عنب قائمة على عصر العنب وتصنيع النبيذ منه وكان يسمى هذا النبيذ (وردى ماسة) على ما اعتقد ولا اعرف اسمه قبل ذلك وهو امتداد لمصنع ايطالي أقيم أبان وجود الطليان فى ليبيا وهو قائم على عصر وتعبئة عنب العصير المزروع بكثرة فى المزارع المحيطة بالمدينة  وفى العهد الملكي استمر المزارعون فى توريد هذا الصنف من العنب الى هذه المعصرة والذي يوزع إنتاجه على الأماكن المسموح بتداول النبيذ بها مثل الفنادق والحانات ورغم نشاط هذه المعصرة من إنتاج غزير الا اننا كنا صغارا لا نعرف الا قليلا جدا من الليبيين يتناولون النبيذ ..وكان يقابل هذه المعصرة مبنى كلية أصول الدين التى كانت تتبع حينذاك جامعة محمد بن على السنوسي الإسلامية ، وكل كان ينشط  فى مجاله، تلك فى انتاج النبيذ والكلية فى تخريج دفعات من خيرة أبناء ليبيا فى مجال الفقه و اصول الدين..وتم تدمير وازاله هذه المعصرة فى السبعينات وتحولت المعاصر الى البيوت والسوق السوداء ، وتبقى العنب ومزارعي العنب بدون مكان لتوريد إنتاجهم حتى إقامة مصنع الفاكهة فى منطقة ماسه فى بداية الثمانينات الا ان مزارعي العنب تحول نشاطهم إلى منتجات أخرى، وتحول مبنى كلية أصول الدين الى مبنى البحث الجنائي بعد ان كثرت الجرائم الجنائية وجزء منه بقى دار الحراسات (سجن) حتى ألان.

اما مبنى ارض المعصرة وما جاورها فقد حل محلها محلات تجارية تبيع كل الأشياء المستوردة من الصين وتركيا وكوريا وايطاليا و يعمل بمعظمها عماله عربية وضاق المكان بما رحب حيث شارك في ازدحام وسط المدينة والتي عادة ما تكون فى الدول المتحضرة مركزا واسعا يسمى السنتر او الداون تاون(Centre)،،والذي كنت أتمناه أيضا ان يكون ساحة وسط المدينة كميدان التحرير بالقاهرة به مكتبات ومقاهي عصرية ومتحف شعبي ومكان لعرض رسومات الشباب وإعمالهم الفنية ،، ولا اعلم شيئا عن مصير آلات المعصرة والتي كان بالإمكان تحويرها اذا لم يكن هناك بد من تدميرها، لصناعة الكحول (السبيرتو) والذي نستورد منه كميات كبيرة للاستعمال الطبي والمنزلي   . ويبدو ان حتى ميزان المعصرة قد تم تدميره أيضا فى خلال تلك الحمية التدميرية التى أصابت النفوس فترة من الزمن وكادت ان تقضى على الكثير من المباني التاريخية ويا ويل من يقف إمامها فقد يتهم بالرجعية والعمالة .

  لا أزال  اذكر ونحن صغار جمال مدخل مدينة البيضاء من الناحية الغربية بعد مرورك على مبنى ضريح الصحابي رويفع الانصارى والمسجد التاريخي الملحق به، حيث كان يوجد مبنى جميل به (دروج) مباشرة بمقدمة المبنى ومبنى أخر للمصرف الزراعي وساحة جميلة بينهما ومبنى البلدية وأمامه ساحة واسعة وبجانبها مبنى فندق اسمه فندق (نيكولا) على اسم صاحبه الايطالي او اليوناني ..وبعدها مبنى مدرسة الميدان الابتدائية والإعدادية الشهيرة والتي درس بها معظم سكان المدينة في الخمسينات والستينات وبجانبها اذكر كانت توجد صيدلية (بوالروين) والتي كانت بمثابة العيادة للمدينة يعمل بها صاحبها ذو الأخلاق الرفيعة وكان بمثابة أب للجميع ويفتح بساعات محددة ومعلومة ومعروفة لدى الجميع(اليوم وحتى على توفر أعداد هائلة من الصيدليات التجارية فلا توجد صيدليه عاملة ليلا فكلها تقفل أبوابها ليلا عكس ما كان سابقا فكانت الإذاعة تقوم بتحديد اسم الصيدلية العاملة ليلا وعنوانها وساعات عملها) وفى شمال تلك المدرسة يوجد ساحة ملعب التنس الشهيرة  ..بعد عودتنا فوجئنا بإزالة معظم تلك المباني وضاع الكثير من تاريخ وذاكرة المدينة ..وتحول الفندق الى مبنى للأمن الخارجي ثم تمت إزالته بالكامل  فيما بعد ولا زلت الى هذه اللحظة حائرا عن الأسباب التى أدت الى أزاله هذا المبنى التاريخي لان مكانه لازال فارغا حتى اليوم، هو والشجرة المعمرة الكبيرة التي كانت تجاوره (يبدو ان حمى اقتلاع الأشجار انتشرت أيضا بعد إزالة شجرة ميدان الشجرة ببنغازي ولا يزال يحمل نفس الاسم رغم عدم وجود الشجرة وكذلك إزالة خروبة فرشيطة الشهيرة)، وراحت الصيدلية وأزيل مبنى مدرسة الميدان   وحلت محلها عمارات سكنية  ،  كما اختفت الساحة الواسعة أمام الضريح والذي كانت تقام فيه كثير من النشاطات الدينية والاجتماعية وبنيت مكانه عمارات سكنية حالت بينه وبين امتداد مقبرة الضريح فى الجهة الجنوبية .. .وللحديث بقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق